الخميس، 23 سبتمبر 2010

عن السلطة والحقيقة

لطالما تساءلت، كما فعل غيري: هل الحقيقة هي السلطة، أو أنّ السلطة هي الحقيقة؟ ومن المنظور ذاته: هل كلّ الحقائق ساطعة؟ وهل ينتصر الحقّ دائماً؟

في العصور الوسطى، أو عصور الظلام، خضعت أوروبا لسلطة الكنيسة، حيث عملت الأخيرة على محاربة كلّ أشكال المعرفة والعلوم، وحرمت الشعوب التي حكمتها من أدنى مستويات المعرفة، على افتراض أنّ المعرفة يجب أن تبقى محصورة داخل جدران الكنائس، ومقتصرةً على عدد محدود من رجال الدين، باعتبارهم، وحدهم، المخوَّلين لقيادة دفّة الحياة، على أساس من السلطة الإلهيّة الممنوحة لهم. استمرّت تلك الحال سنين طويلة، وكانت الحقائق تُفرَض من قِبل السلطة الوحيدة آنذاك؛ الكنيسة.


في جانب آخر من العالم، كانت الإمارة الإسلاميّة تزداد اتّساعاً وتوهّجاً، مستفيدةً من صهر معارف كافّة الشعوب التي انطوت تحت لواء الإسلام، سواء برغبة منها أو بقوة السيف، غير متوانيةً في دعم البحث والتأليف ومعاملة العلماء والأدباء من تلك الشعوب، العربيّة وغير العربيّة بسخاءٍ شديد.

مع بواكير ظهور عصر النهضة الأوروبيّة، وتحرير المعارف من سلطة الكنيسة، تسارعت باضطراد معالم الحضارة في الغرب، بالتزامن مع انحسار دور الإسلام، نتيجةً للأطماع الشخصيّة، والانقسامات السياسيّة، ومظاهر الترف والبذخ التي انغمس فيها أمراء المسلمين. لتُظهر بعض الإحصائيات الحديثة أنّ ما صدر من كتب في العالم العربيّ كلّه منذ العصر العباسيّ وحتّى الآن يعادل ما يصدر من كتب في إسبانيا خلال سنة واحدة.

اليوم، وبعد كلّ الدراسات والوثائق والنظريات التي نملكها عن مراحل حياة البشريّة، أعود إلى الأسئلة التي أثرتها في مقدّمة حديثي، محاولاً استنباط أجوبة لها من خلال بعض الأحداث والوقائع التي شهدتها شخصيّاً مع بدايات القرن الواحد والعشرين وفقاً للتأريخ الميلادي.

قبل أكثر من ثلاث سنوات، تُوفّي جدّي، وخلال مراسم العزاء، زارنا ضيف تسبقه إلينا شهرته وشهرة والده، كرجال دين، وكأشخاص ذوي معرفة واسعة.

في الغرفة التي اجتمعنا فيها مع ضيفنا وحاشيته، دارت أحاديث كثيرة، بين أقرباء لي، يمكن وصفهم بالعلمانيين، ورجل الدين؛ ضيفنا. في معرض الحديث عن مظاهر المشيخة، قام عمّي بتوجيه سؤال، أجده محرجاً، للضيف، إذ قال: أنت تعلم أنّ مظاهر المشيخة هذه، والمبالغ فيها غالباً، تناقض ما جاء في الإسلام، وهي ليست من أركان الإسلام ولا من سنة النبي، فلماذا تواظبون على التمسّك بها، والتماهي بتوسيع نطاقها؟

كان جواب الضيف أشدّ إثارة للجدل من السؤال ذاته، إذ أجاب برحابة صدر: نحن نعلم أنها مظاهر مزيفة لا تمتُّ للدين بصلة، ولكن الناس يحترموننا لوجود هذه المظاهر، وبصراحة لا نستطيع الاستغناء عن هذه المظاهر حتى لا نفقد هيبتنا واحترامنا بينهم.

في الغرفة الأخرى، كانت الفتيات والنسوة يمسحن وجوههنّ بعباءة ضيفنا، ويتبادلن الأدوار في ارتداء حذائه، أو على الأقلّ لمسه.

هذا غيضٌ من فيض، فحيث أقطن، وفي كثيرٍ من المدن والقرى الأخرى، ليس في سورية فقط، بل في مختلف دول المنطقة، يتمّ التعامل مع الشيوخ، بغضّ النظر عن مصداقيتهم ومقدار العلم الذي يحملونه، على أنّهم مخلِّصون، وأنّهم قادرون على أن يشفوا الناس من الأمراض، ويهرع الناس إليهم لكي يخلّصوهم من الأرواح الشريرة أو من "حجابات" مضادة، أو ليكتبوا لهم "حجابات" الرزق أو التوفيق في العمل أو الزواج..إلخ.

في العام الفائت، طلبت إليّ صديقة أن أقوم بطمر حجاب صنعه لها أحد الشيوخ المعروفين في إحدى المقابر، وذلك لإبطال مفعول حجابٍ استعان به خطيبها لفرض سيطرته التامة عليها.

الأمر واضح جداً، فبالنسبة لغير المؤمنين بوجود الله فالأمر ضرب من الخرافة والجهل، وبالنسبة للمؤمنين بوجود الله فالأمر ضربٌ من الإشراك بالله، وفي كلتي الحالتين فإن ما يدفع الناس إلى اتباع هذه الطرق لحلّ مشاكلهم هو الضعف والشعور التامّ بالعجز، مما يجعلهم يرمون بأثقال الصعوبات التي تواجههم على قوى غيبية، موجودة أو افتراضية.

قد يقول قائل إنّ الحقّ سيظهر، وسيُزهق الباطل؛ ولكن أيعقل أن يُنتظر ظهور الحقّ في كلّ مرة مئات السنوات؟! أيمكن أن يكون الحقّ ضعيفاً كلّ هذا الضعف؟!


* تم نشر هذا المقال على موقع عكس السير الالكتروني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق