السبت، 11 فبراير 2017

تسع ساعات





أعيش مرّتين كلّ يوم. عيشتان متناقضتان، لكن لغاية واحدة، واضحة في إحداها، وعبثية في الأخرى. أعرفُ جيداً ما أسعى إليه في الوقت الأول، وخلال الثاني أحترفُ تعمّد ترك نفسي هائمةً على دخان التناقضات واللاجدوى. فكرةٌ واحدةٌ تحدّد نمط تصرّفاتي، وترسم ملامحَ الطريق إليها وشكل الهروب منها، كمعزوفة جاز ثابتة الإيقاع ولا نهائيّة الارتجال. هو ليس بالتيه، بل هو التناغم في غير المنتظر بين الضدّين، يسيران معاً في الزمن إلى اللامكان، حيث لا وجود يعلو على صوتها-الهوس. أنا، سيّد معرفتي وأسير الأدوات، أختارُ الحدسَ نهجاً لما لا يمكن اقتفاؤه بالمنطق، إذ لا تجارب يعوَّل عليها في مقعرّات الرّوح الهائجة. الجنون! لا بأس به إن كان أقلَّ موتاً من الذاكرة. هي حربي، التي لا جنود فيها إلاي، أحظى بالنصر والهزيمة، مرّتين، كلّ يوم.

أرسمُ على أرض الهامش دائرتي التي تصير، مع التساقط المتكرّر، حفرةً موشومةً ببقايا أظافري؛ آثار محاولات الصعود. الجدران الخاوية، مرآة العقل، اشتدّت سماكةً. نورٌ باهتٌ كالأمنية السابقة، اضطرابٌ موسيقيّ مارق، والليلُ خارجاً متاهة. تسعُ ساعاتٍ حقيقيّة حدّ الارتياب. كان يمكن أن أكون كذلك دائماً، لكنّها تلاشت كعطر ياسمينةٍ قُطفت لفرحةٍ آنيّة بقبلةٍ غير مستحقّة.


صباحاً، كاليوم السابق، وأيّامٍ ستلي، أقف لدقائق في الحمّام، محاولاً انتزاع وجهي من المرآة، كي أتناسى وزني المتناقص. أتذكّر مجدَّداً أن لا شيء أفضل من السجائر والقهوة، وبعض الموسيقى، التي بالكاد صرت أسمعها بصوتٍ عالٍ منذ أن أُجبرت على ترك هذه العادة، إن صحّت تسميتها كذلك، خلال فترة الملاحقات الأمنيّة. أجلس مكاني، أو ما تبقّى لي منه، مسترجعاً نكهة القهوة في غرفتي التي لن أعود إليها. لا شيء يشبه غرفتي، لا شيء يشبهني. تتهامس إلي كلماتٌ لن أرغب في كتابتها. أحاول تدارك ما فاتني، فأغفو. هناك، حيث أصل، أستمرّ في الهرب من شيء لن أتذكّره حينما أستيقظ، أو أبقى نائماً مكبّل اليدين ريثما يصبح النهوض واجباً. مرّة أخرى أستشعر الحاجة إلى طقوس القهوة والتدخين والموسيقى. لن أنسى شيئاً، كما يبدو، ولن أتذكّر كثيراً من الأشياء أيضاً. يمسي الليلُ بعيداً، لكنّي أنتظره، ككتابٍ لن يقرأه أحد. هذا السواد يذكّرني دوماً بعجزي، تماماً كما كنتُ ساعة انهالوا بالضرب عليها قبل اعتقالها. لم أكن جباناً، أو ربّما كنتُ كذلك، لكنيّ لن أسمح للموت بأن يداهمني مرّة ثالثة. ألتفتُ إلى صديقي الذي كلّمني من معتقله، وأحدّثه عن الذين لم يتمكّنوا من مكالمتي. رغبةٌ ما تأخذني بعيداً. سريرٌ قديم، الحرّ يستعرّ كلّما اقتربتُ من شفتيها. يتعالى صوت البيانو، أبحث عن ولاعتي، فلا شيء أفضل من القهوة التدخين والموسيقى عندما أتذكّر أنّي نُسيتُ في مكاني، أو ما تبقّى منه.

كدتُ أعرف الآن الاختباء؛ أن أنصهر في الظلمة، حيث يختبئ جميعهم، دون أن يلحظوني، أن أتجاهل صوتي وأنصت، أن أنتظر، دون مجيء أحد، أن أفعل كلّ ما لن أفعل، على الأقلّ هنا، أن أعرف التوقيت ثمّ أنسى كم قضيت ومتى سأنصرف. أداعب لحيتي شعرةً شعرة كالبيت القديم، أتأمّل تناثر بقايا السجائر حول رقعتي حتى مفتاح البيانو الأخير، أصبح شاعراً حيناً، أخرقاً، لا يكترث بي المطر، ولا أنا. مجدّداً، أسقط. ليس لي أن أنهض، تنقصني الرغبة حيث تركتُها مقعداً لفسحةٍ أخرى يزورها غيري.

* تم نشر هذا النص على موقع ألف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق