الأحد، 29 مارس 2015

رسائل في زمن الثورة




مضى يومٌ آخر وأنا جالسٌ في غرفتي، أنقلُ نظراتي بين الجدران العارية إلا من صورةٍ لا أتحدّث عنها كثيراً. ظهرتْ عليَّ هيئة المتأمّل، إلا أنّني كنتُ أشدَّ تيهاً من أيّ وقتٍ مضى، فذكرياتي القريبة بدتْ لي أبعد ما تكون عن حديث اليوم الأخير.


جلستُ إلى طاولتي القديمة ذات اللون الخشبيّ الفاتح. أطفأتُ لفافة التبغ في المنفضة التي لم تعد تتّسع لعُقبٍ آخر، وشرعتُ أكتب على ورقةٍ سبق وأن دوّنتُ عليها بعض الملاحظات قبل أن أرسم فوقها: "لا أعرف البدايات المناسبة، كما لا يمكنني أن أتكهّن بالنهايات التي ستكون، ففي هذا العالم، حيث لا مكان يجمعنا، يمكن أن يكون أيّ شيء أو لا شيء." رفعتُ الورقة قليلاً ثم أعدتها، ونقلتُ محتواها إلى حاسوبي وأرسلتها إليها. بحثتُ في بريدي الالكتروني قليلاً لأتأكد من أن رسالتي قد أرسلت بالفعل. تناولتُ لفافةً أخرى، وأخذتُ أدخّنها بشراهة طفلٍ جائع.



بعد بضع دقائق، أشار لي الحاسوب إلى أن الرد جاء، فسارعتُ إلى فتح الرسالة وأخذتُ أقرأها بتمعّنٍ شديد: "لا مكان للوقت الذي يتسرّب من الأصابع؛ الأصابع التي فرغت من تقليم أجنحة الليل. على حافّة الكلمة ينام حلمٌ مُمزّق الصورة، مُشتَّت المنافي."


سرعان ما كتبت ردّي: "ماذا يضيرُ لو جمعنا شتات الصور في صورةٍ جديدةٍ واحدة؟ أو أنّ الحلمَ لم يعد يتّسع لحطامنا؟" وبالسرعة ذاتها جاءني الرد الجديد: "احرق حلماً لتوقد غداً سليماً لا يتّكئ على خيباته."


قرأتُ الكلمات التسعة مراراً باحثاً عن ردّ مناسب. لم تكن أفكاري المشتّتة قادرة على التكاتف في جملٍ مناسبة. نظرتُ إلى ساعتي، كانت تشير إلى التاسعة والنصف ليلاً. تذكّرتُ ميعادي، فارتديت ثيابي على عجل وانسللتُ من المنزل دون أن تلحظني أمّي.


وصلتُ إلى المكان. وجدتُ اثنين من رفاقي.


- أين البقية؟ تساءلتُ وأنا أتلفّت حولي مستغرباً.


- إنهم منتشرون في الحارات.


- هل العدد كما توقعنا؟


- لا، أقلّ بكثير.


- لكننا سنفعلها، أليس كذلك؟


- أجل.


مرّت دقيقتان من الانتظار والترقّب ومراقبة الطرقات مع التدخين. نزل بعض الشبّان من الحارة الفرعية. تلثّمت ولحقت بهم، وطلبت من رفيقَي أن يتلثّما ويلحقا بي. تجمّع نحو خمسين شابّاً خرجوا من الحارات، وبدأ الهتاف: "الشعب يريد إسقاط النظام." بعد أقل من خمس دقائق جاءت الصافرة من الخلف وتعالت الأصوات: "الأمن.. الأمن.." فأخذ الجميع بالركض بشكل عشوائي ليختفوا في مداخل الأبنية والشوارع الفرعية، دون أن تتمكن عناصر الأمن من إلقاء القبض على أحد.


جلستُ على درج أحد المنازل في شارع فرعي معتم لا تلجه السيارات. كنتُ ألهث بقوة. انتابني الاضطراب عندما سمعت صوت سيارات الأمن تقترب من مدخل الشارع بعد أن أدركتُ أنني لم أعد قادراً على الركض أكثر. بقيتُ في مكاني على هذه الحال لأكثر من نصف ساعة ريثما التقطتُ أنفاسي. نزعتُ لثامي ومضيت. أوقفتُ سيارة أجرة بعدما قررت المغامرة بالمرور من الحاجز عسى أن لا يتعرف المخبرون في الحي على ثيابي، وهو ما حصل.


ترجّلتُ من سيارة الأجرة في المنطقة المجاورة. أجريتُ عدة اتصالات لكي أجد مكاناً أنام فيه حتى الصباح، إذ أنه كان من الخطر أن أنام ليلتها في منزلي بعد ما حدث. استقلّيت الحافلة وأنا لا أزال أفكر في ردّ مناسب.


وصلتُ إلى غرفة استأجرها أحد أصدقائي مؤخراً في حي شعبي، وفور دخولي طلبتُ منه حاسوباً وبعض القهوة، وكتبتُ لها: "لن أحرق أحلامي كما فعلت بأوراقي، وليكن الغد كما سيكون، فأنا بعض تلك الخيبات ونتاجها. لا يمكن الوصول إلى الغد عبر الهروب، فالأمس كان طريقاً لليوم، واليوم طريق الغد."


لم أنتظر ردها طويلاً لانشغالي بكتابة منشور كان من المهم إيصاله إلى أحد المجموعات السرية من أجل توزيعه في اليوم التالي داخل قاعات الجامعة.


حالما انتهيت، عدتُ إلى بريدي، ورحتُ أقرأ ما وصلني: "هي خطا مسافرة إلى اللانهاية. تمضي الأيام دون أن نمسك بذيل أغنية شدوناها يوماً ما، دون أن نحفظ الطرقات التي سلكناها إلى نبضة خجولة. تلك الخطا التي تحمّلنا ما لا طاقة لنا به فلتمضي بعيداً، فللطريق قِبلة أخرى."


فكتبتُ لها: "لا يمكن أن تكون تلك الخطا عبثية التوجه، كما لا يمكن أن نشدو أغنيات لم تكن لنا. هذه الشجرة لا نهائية الأغصان، ولنا أن نختار الغصن الذي سنشدو عليه، ولتكن أغنية جديدة، فالكلمات التي نكتبها اليوم كانت عصية على أناملنا على غصن آخر."


بعد لحظات كان جوابها جاهزاً كما لو كانت قد كتبته مسبقاً: "أحب شجرة الميلاد. اسمها الميلاد دون أن أذكر ميلاد من ولمن. أحب ما يعلقون عليها من زينة، ولكن ماذا لو علّقنا عليها بضع أماني وعلّقنا على أنفسنا انتظاراً آخر؟! هل لا زال الانتظار سكة بين محطتين أو بات المعبد الذي نصلي فيه للأمل؟


دون أن أطيل التفكير أيضاً رددت: "الحنين والانتظار والأمل؛ جدران سجنك، والميلاد يقبع خلفهم."


قبل أن يتملكني التعب من مراقبة الحاجز القابع على بعد أمتار من النافذة، أرسلت لي ما بدا كموقف حاسم من هذا الجدال: "الميلاد سبات من نوع آخر. هو النوم الذي يرافقنا في التفاتنا نحو اليقظة. إن كل ما يصادفنا ومَن يصادفنا خيال، والقليل فقط يستحق أن نحلم به."


لم تكن حالتي حينها تسمح لي بالتفكير في رد مناسب، فأطفأت الحاسوب واستسلمت للنوم. صباح اليوم التالي كان علي أن ألتقي شخصين للاتفاق على مظاهرة المساء. وقفتُ في المكان غير البعيد عن مقر أمني أنتظر قدومهما. بعد أكثر من ربع ساعة غادرت المكان خوفاً من انتباه أحدهم لطول وقفتي. عدتُ إلى المنزل. فتحتُ حاسوبي باحثاً عن أية أخبار مهمة. تملكتني رعشة باردة بعد أن قرأت أن أحد الشخصين قد تم اعتقاله من منزله. الشيء الوحيد الذي خطر في بالي حينها هو أن أترك المنزل خوفاً من المداهمة. فتحت حاسوبي على عجل لأمحو كل المعلومات التي قد تشكل خطراً على أي كان.


بعد أن انتهيت من ذلك، أرسلتُ لها رسالة أخيرة: "هذا القليل الذي يستحق أن نحلم به يستحق منا أن نكون في الواقع من أجل أن يصير الحلم واقعاً."


نقلتُ رسائلنا إلى ورقة قبل أن أمحوها. لململتُ بعض الحاجيات في حقيبة صغيرة. ودعت أمي ثم خرجتُ من المنزل، ولم أعد بعد.

** تم نشر هذه القصة على موقع ألف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق