الثلاثاء، 23 يوليو 2013

بقايا إنسان

 بدأتْ هذه الحكاية صيفَ السنةِ السابعةِ بعدَ الألفين. هي ليست بالغريبة أو الجديدة، إنّها تحدث كلّ يوم، ومع أيٍّ كان، ولكن، يُفضِّل معظمنا بقاءها طيّ النسيان، أو إخفاءها في الزوايا المُعتِمة.

حاولتُ أن أعيد ترتيب بعض القُصاصات التي رَمَتْها الأقدار في طريقي، لأجمع من خلالها بقايا إنسانٍ رفضَتْه الحياة، وتناساه الموت.

..

وقفَ، حائراً، بين عدّة مرايا، كلُّ واحدةٍ تعكس صورةً له. في أيّة واحدةٍ ينظر؟ وأيّة واحدةٍ تعكس صورتَه الحقيقيّة؟ أم إنّ هذه الانعكاسات، مجتمعةً، تُعطي صورةً متكاملةً عنه؟


كان يبحثُ عنها في كلّ مكانٍ دون أن يعرفها. يراها في الحُلُمِ بين الحين والآخر. يحبّها حينها كثيراً. لكن، حالما يستيقظ ينسى كيف كانت وأين سيجدها. لا يدري إن كان ذلك ضرباً من الهلوسة، أو نوعاً من أنواع الأمراض، أو ربّما هي حاجةٌ نفسيّة تتجلّى بهذه الصورة. لكنّه كان يميل إلى الاعتقاد بأنّها حقيقة، وعثوره عليها ما هو إلا مسألة وقت لا أكثر.

لطالما وجد نفسه جالساً على إحدى تلك الصخور المُتداخلة مع البحر، يتأمّل اهتياج الأمواج واحتضانها المطر المُنهمِر بشدّة. في تلك الساعات المبكَِّرة من الصباح، كان يستثير ألمه، وينبش الزوايا البعيدة في ذاكرته. لم يُظهِر له البحر من نفسه سوى ما كان يُرسله إليه من أمواجٍ تدفع أمامها علب السجائر والمشروبات وقطعاً من الأخشاب مشكِّلة بعض الزَبَد في الفراغات بين الصخور. وجوهٌ عديدة قُذِفت إليه من بعيد، وأخرى استحضرها. أصواتٌ وجملٌ منمَّقة، وأخرى مبعثرة. مرَّ مركبٌ من بعيد عليه بعض الأضواء وظلال شخصَين، وبعض الأمل. حفّزت رائحة البحر فيه رغباتٍ عديدة، كان أكثرها بروزاً رغبةٌ شديدة في الكتابة. نفث الدخان بكثرة في الهواء وأدرك أنّ عليه أن يخطو باتّجاهٍ ما. لم يشهد الولادة الجديدة للشمس، ولكنّ أشعَّتها أنارت أجزاءً من المكان.

كلّما التقى غريبةً ما انفتح له باب الأمل من جديد. كان يحمّلها ما تمنّى أن تتحلّى به، إذ رغب في اتّصافها بكلّ ما لم يجده في من سبقها ممّن عرفهم. ما فتئ يرسمُ لها صورةً جميلةً آملاً في أن تكون هذه الصورة واقعاً جديداً، ثمّ ما يلبث أن يراها تترنّح أمامه جريحةً باحثةً عن خلاصٍ ما، أو ربّما تكتفي بالنظر إلى جرحها دون رغبةٍ منها في الشفاء. حاولُ، عبثاً، أن يكون الخلاص، ولكنّها مرّت بين أنامله، في كلّ مرّة، كما لو كان شجرةً متيبّسة.

بحث في وجوههم عن نفسه. راقبَ ذاته من خلالهم مدركاً وحدته عبر صخبهم. جلسَ لفتراتٍ طويلة دون أن يلحظنه أحد مستمعاً إلى كلماتهم المُتناثرة على مسمعيه ليختارَ منها قصصاً أسقطها على أشكالهم. كان يفتّش في حاضرهم عن ماضيه فلم يرَ سوى الهشيم من حوله. شرع يتمتم لنفسه: "أشخاصٌ لا يُدركون ما يجري خلف الجدران التي تحيط بهم! هل أُشبِهُهم أنا أيضاً؟ هل أُخطِئُ حين أظنّ نفسي مختلفاً؟ ربّما لهذا السبب لا يلاحظني أحدهم، أو لا ألاحظ من يلاحظني. سأبقى أفعل ما أفعل، وليفعلوا ما يفعلون."

أمّا هي؛ فقد جلستْ، بعد ذلك اليوم الصاخب، تشهدُ انهمارَ المطر عبر نافذتها، باحثةً عن بعض السكينة هناك. ودَّ لو كان من تنتظره عبر تلك النافذة!

مرّت أربع سنوات ونصف على معرفته بها، ولم يستطع أن يطلق اسماً على ما كان بينهما. منذ التقاها في المرّة الأولى وهو يتخبّط بين أفكارٍ وأحاسيسَ مختلفة. في كلّ يومٍ جديدٍ رأى أشياء كانت مُبهمةً. لم يستطع تناسيها، واهتمّ لشؤونها كما لو كانت جزءاً منه، وبالمقابل خشي من التورّط في علاقةٍ رأى نهايتها قبل بدايتها. ربّما معرفته الجيّدة بها أخافته منها. موانعُ عديدة حالت بينهما: الطائفة، الحالة الاجتماعيّة، الاهتمامات، وأخيراً الثقة. لقد كانت من النوع الذي لا يستقرّ على حال.

ترك لها يده تحتمي بظلّها سنينَ طويلة حتّى فقدتْ دفأها. مرّت عليها أيّامٌ طويلة من البرد والخوف حتّى تجمّدت. صارت أضعف من أن ترتدَّ إلى سابق عهدها، أو أن تتحطّم على نفسها.

حاول جاهداً أن يركّز كي يفصل بين الأفكار وينتقي لها كلماتٍ يستطيع البوح بها، ولكنّ ذهنه كان مشتّتاً أكثر من رغباته. لم يعرف إن كان حسناً هذا الركود في مشاعره وأفعاله، وهل هو دليل نضجه، أو إنّه تلخيصٌ لفشله. كانت كلّ الأمور تجذبه إليها بقوى متساوية، فلم ينزح إلى أيٍّ منها، ولم يملك الرغبة في أيّ انزياح نحو أيّ شيء. كلّ ما كان يفعله هو التكديس: تكديس المشاعر، الأفكار، الرغبات والأفعال. لكن، وبالرغم من ذلك، لم يبدُ مستاءً من حاله هذه.

أدركَ أنّه مقبلٌ على أمرٍ مجهول العواقب، لكنّ نشوة المخاطرة طغت على سكينة المبادئ. حين تركتْ الأخرى –كما أطلق عليها- الغرفة بقي جسده ملقىً على السرير وسط بركةٍ من العار والخطيئة. بات من الصعب عليه التوقّف بعدما أدرك ماهيّة ما أُقحِمَ فيه. كان التفكير بالعواقب يرغمه على الاستمرار، ورغم ذلك، احترفَ وجوده كهاوٍ هناك. لم تكن عيناه قادرتَين على إظهار النزاع المُشتعِل في نفسه. اجتمعتْ في تصرّفاته البراءة والدهاء، كما لو كان قد خُطِّط لها منذ عقودٍ طويلة، فجوانب الطيبة فيه، والتي ما استطاع السيطرة عليها، كانت تثبّط معظم شروره. أيقنَ أنّ عواقب المضيَّ في ذلك أهون من عواقب الانقطاع آنذاك.



وقف على شرفته يوماً وتذكّر عبارةً قرأها مرّة: "الغد وحده هو الذي يخصّني، وبعض المولودِين فيما بعد.." ثمَّ ردّدّ آخر خاطِرة كتبها:

"تمدَّدتْ في داخلي جثّتي،

أغمضتْ عينَيْها بهدوءٍ، ونامتْ

رحلَتْ عميقاً.. عميقاً..

وبقيَ الألمُ حيثُ كانتْ."




* نُشرت هذه المادة على موقع ألف الالكتروني

هناك تعليقان (2):