السبت، 15 يناير 2011

ما زلتُ في مُقتَبَل العمر


وقفتُ، مستنداً على الحائط، أراقبُ أيّ شيءٍ يتحرّك في الشارع، في انتظار صديقتي التي ما تنفكّ تتأخّر عن مواعيدي معها. أوقف شرطيّ المرور سيل السيّارات الذي يجتاز الطريق العامّ دونما سبب. مرّت دقائق عدّة، والسيّارات تتجمّع خلف هذا الأخرق. بدأ صراخ السائقين يتعالى، وبعضهم راح يطلق الزمامير بلا هوادة. لمَ يوقفهم كلّ هذا الوقت؟ لعنة الله عليهم؛ أينما وُجِدوا تجد الازدحام. كم أعشق منطقتنا. لا تجد فيها أيّ ازدحام حتّى في ساعات الظهيرة، والسبب في ذلك خلوّها من إشارات المرور وشرطتها. تزايد الصراخ والضجيج، والسيّارات تستمرّ في التدفّق على هذا المَعْبَر الحيويّ، وهذا المعتوه يتعمّد إثارتهم. سأذهب لأحطّم وجهه البشع هذا. آهٍ لو كنت أملك سيّارة، لدهسته وأكملتُ طريقي وكأنّ شيئاً لم يكن. كيف سيتقدّم مجتمعٌ يحوي عناصر كهذه؟


اهتزّ هاتفي النقّال في جيبي، فأخرجته مسرعاً آملاً أن تكون هي من تتّصل. إنّها رسالة نصيّة! ربّما تخبرني إنّها ستتأخّر، وكأنّها لم تفعل بعد!

"أحمد دلة سيذهب لجنوب إفريقيا ليشاهد كأس العالم مع MTN! وأنت؟.."

أنا سأذهب إلى MTN لأشرب كأساً مع العالم نخب الزاوية الجنوبيّة من الفاتورة "رسم إنفاق استهلاكي، ضريبة الدخل، رسوم وطوابع" فهذه الكلمات، التي لمّا أفهمها بعد، تصيبني بالقشعريرة.

"اليوم السحب.. سبعة مليون.. جرّب حظّك أستاذ.."

يا نصيب؟ هذا ما كان ينقصني! لو كان لي بعضٌ من حظٍّ في هذه الدنيا لما وقفت كالكلب المتشرّد هنا.

"الله يجبر عنك عمي."

أين هي؟ لو كنتُ رجلاً بحقّ لاستطعتُ منعها من التأخّر في كلّ مرّة. ماذا؟ أتظنّ أنّ هذا يندرج تحت ما يُسمّى "دلع البنات أو التقل؟" هيه، يقولون "نص عقل!" أحسبها ربعاً.

اهتزّ هاتفي من جديد. ظهر الرقم فقط. إذن، أنا لا أعرف من يتّصل. أتراها هي؟ أحصل لها مكروهٌ ما؟ رددتُ متلهّفاً: "ألو؟!.. غلطان حبيبي.. يا أخي ماني أبو محمد.. ليش بدي كذب يعني؟ أخي بتفهم عربي ولا لأ؟ يلعن......"

حسناً؛ حاول أن تهدأ. ليست بالقصّة المهمّة. آه؛ سحقاً. كيف سينتهي هذا اليوم؟ بدأ بشعبة التجنيد، والآن أقف كالأخرق وسط كلّ هذه السيّارات أنتظرها. شعبة التجنيد! ماذا أقول؟ ولمن أقول؟ لم يقوموا بتأجيل خدمتي الإلزاميّة بعد لأنّهم يحتاجون لصورة مصدّقة عن وثيقة البكلوريا، ياللسخافة! حاولتُ عبثاً إقناع الموظّف أنّ الطالب الجامعيّ، بصفته مسجّلاً في الجامعة، وهذا ما تثبته الورقة التي أحملها، لا شكّ قد حصل على البكلوريا، لكن "عالج لا تفالج."

ذات الأمر حصل معي السنة الماضية، ولكن في فرع الهجرة والجوازات. لم يقبل الموظّف تسجيل كلمة طالب في خانة العمل بحجّة أنّ بطاقتي الجامعيّة غير مختومة. لم أستطع إقناعه أنّ شابّاً بعمري هو طالب بالتأكيد. وضع المهنة من عنده في رغبة منه لمساعدتي "لأنو كنت رايح بواسطة" لقد كتب "محاسب تجاري" فهذه لا تحتاج لإثباتات!!

أنا طالب يا أخي، طالب جامعيّ، طالب القرب، طالب السترة، طالب أيّ شي. وأيّ طالب؟! سأتخرّج من كليّة الاقتصاد وأنا لا أزال أجهل أماكن العديد من قاعاتها، بسبب قلّة عدد الطلاب، لذا كثيراً ما كنتُ أشعر بالملل في القاعات والمدرّجات، كما كنتُ أشعر بالبرد، حتّى في أيّام الصيف، كيف لا وأنا أجلس مع ثلاثة آلاف طالب فقط في قاعة تتّسع لثلث هذا العدد؟!

نظرتُ في ساعتي مجدّداً. ها قد مرّت ساعة على موعدنا، وأميرتي لم تظهر بعد.

أين كنّا؟ الاقتصاد! لماذا اخترت هذه الكليّة أصلاً؟ بعد انقضاء عامي الدراسيّ الأخير (البكلوريا) بين غرفة التوجيه وأرصفة الشوارع، سعياً بين مدرستي والمعاهد الخاصّة، باحثاً عن أيّة وسيلة تمنحني علامة إضافيّة في المجموع العامّ، ظهر هذا المجموع. لم أعد أذكر، بعد كلّ هذه السنوات، تفاصيل الأخطاء في الأسئلة، وأمنياتي، كغيري من الطلاب، بأن تكون زوجة المصحِّح تحسن معاملة زوجها في أوقات التصحيح، كما لم أعد أذكر جيّداً "دوخة" التسجيل في المفاضلة. لكن ما أذكره أنّي كنت أحبّذ ولوج كليّة التربية، وبشكل خاصّ قسم علم النفس. لم يعارض أهلي توجّهي هذا، ولكنّهم واظبوا، خلال أيّام طويلة، على تقديم النصائح فيما يتعلّق بمستقبليّ.

- أتعتقد أنّهم سيعلّمونك علم النفس كما تتوقّع؟

- ماذا ستفعل بعد التخرّج؟ أستاذ في مدرسة؟!

- تستطيع تعلّم أكثر ممّا سيعطونك من خلال قراءة الكتب القيّمة.

- الأمور في البلد تتّجه نحو التطوّر الاقتصاديّ، وصناعة التأمين والمصارف تشقّ طريقها نحو التطوّر والازدهار.

... كثيرةٌ هي الجمل التي قالوها، وللأسف، يبدو أنّهم محقّون.

اهتزّ هاتفي من جديد. إنّها هي. رفعت رأسي محدّقاً فيمن يحيطون بي عساها تبحث عنّي. لم أجد أحداً. ضغطتُ على الزر الأخضر؛ أخضرٌ كعينَي اللتين ستحمرّان بعد قليل.

- ألو، أين أنتِ؟

- لا أعتقد أنّي أستطيع المجيء، أو ربّما من الأفضل، أو لا داعي لأن آتي أصلاً.

- ماذا؟ كيف؟ ما الأمر؟

- لا شيء.

- لا تُثيري أعصابي، أرجوكِ. تكلّمي بوضوح.

- حسناً. كنتُ أفكّر في علاقتنا مؤخّراً، وأشعر أنّني لا أريد أن أخسرك، ولكن كصديق، أو ربّما كأخ.

- ماذا؟ وماذا كنّا في الشهور الماضية؟

- لا أعرف.

- لا تعرفين؟!

- أرجوك تفهّم وضعي. أريدك إلى جانبي دائماً.

- كصديق؟!

- نعم، كصديق. هناك أمرٌ آخر يجب أن تعرفه الآن.

- تفضّلي.

- خطبتي الأسبوع القادم.

- مبروك.

- مبروك؟!

- مبروك.

- أرجوك لا تتضايق، لكنّه ابن حلال، ويعمل في الخليج. لديه بيت وسيارة...

- حسناً، مبروك. وداعاً.

لا بأس. ابتسمْ. لا تيأس. ما زلتُ في مقتبل العمر، والفرص تنتظرني.

لملمت بقايا مشاعري، وعدت إلى شعبة التجنيد لأستكمل إجراءات تأجيل خدمتي الإلزاميّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق