الجمعة، 12 مارس 2010

نُبوءة

هناكَ شيءٌ واحدٌ أكدَّهُ الشيخ: "القلوب الوحيدة تُرمى من النوافذ."[1] كرّرها أكثرَ من مرّةٍ قبل أن يغفو. قرب المدفأة كان الصغيرُ يردّد: "ارفع جبينَك للعُلا وتقحّمِ."[2] كرّرها أكثرَ من مرّة قبل أن يحفظها. وسط هذا الازدحام من التكرارات، كانت الأمُّ تحيكُ ثيابَ المولود الجديد وهي تغنّي أغنيتها المفضّلة منذ الطفولة. في الخارج، كان الأب يحفر التراب الممزوج بالمطر والروث والدموع؛ كان يحفر قبراً لأحدهم.

هُرِعَتْ الغيومُ تتدافع محدثةً ضجّةً كبيرة، ذارفةً بعض الدموع من ألمِ الاصطدام هنا وهناك. انزلقتْ الحافلة بسبب المياه فهوت عن الجسر الخشبيّ الذي لم يتذكّره أحدٌ منذ عقود.


كانت السناجب والنمل تأكل ممّا ادّخرته في الصيف. أمّا هي، المسكينة، كانت ترتجف تحت جلدها في ركنٍ منسيٍّ من الشارع الغارق في ظلمته ووحشته. سبقها الحبُّ ولم ينتظر منها حتّى أن تودّعه. رحل في قطارٍ أكل من الفحم ما كان غابةً من الأشجار في أزمنةٍ غابرة.

في الجانب المضيء من الشارع، أخرج أحدهم رأسه من النافذة مستمتعاً برشق المطر لوجهه الذي غزته آثار الحروب الطويلة، ثم رمى نفسه إلى الأسفل، فارتطم رأسه بالرصيف لينزف. لم ينتبه إليه أحد. كان كلٌّ منهم منهمكاً بالطريقة التي سيصل الموت بها إليه.

قُطعت أسلاك الكهرباء إثر الريح الشديدة التي عصفت بالمدينة التي اجتازت خطوط الحياة. وحدها الشموع بقيت تحترق في المدينة، أمّا ما تبقّى منها، فقد صار رماداً يتنفّس الموت في كلّ لحظة، تلك اللحظة التي تتكرّر منذ آمادٍ طويلة، دون أن يلحظ أحدٌ رتابة الموت، وسخف القدر الذي يعمّق جراح الأرض بما تدوسها من نعال. دويٌّ وقيءٌ وحشرجةٌ ونواح. ليلٌ يدقّ نواقيس محطّات الهروب.

في دار العبادة، كانت الأعمدة وحدها من تقف. حتّى الآلهة تخلّت عن المدينة. ارتعدت الأرض لتهزّ الأجساد الآثمة ولتسقط الأقنعة عن الخطايا. انهار المعبد فوق عابديه.

وحدها، في ذاك الركن المنسيّ من المدينة، وحدها كانت تتمتّع بما يحصل. لم تهرب أبداً. كانت في تلك اللحظات تتذكّر كل نظرةٍ أهانتها في هذه الشوارع.

انبثق نورٌ من السماء شدّ الفتاة إلى السماء. لم يبق هناك سوى المدينة الآثمة تحترق بالذنوب التي ارتكبتها. لم يخطر ببال أحدٍ أنَّ الحياة التي عاشوها كانت بحثاً عن الهلاك، فكلّ يومٍ مرّ كان خطوة نحو النهاية. لقد عشقوا المكان حتّى انقلب عليهم، وسابقوا الزمن حتّى مرّ من فوقهم كعربة قديمة ثقيلة. بعد رحيلها، توقّفت أسباب الحياة في المدينة. الأموال المكدّسة في المصرف، العقارات الضخمة، الحقول، الأرائك المريحة، وسائد الريش، الألسنة والآذان كلّها لم تستطع أن تمنع الغضب عن النيل منهم. لم يفعل أحدهم أيّ شيء يمنع عنه ما يحصل. لم يذرف أيٌّ منهم دمعةً صادقةً واحدةً يغسل بها العار الذي لحق بالأرض. ابتلعت الأرض المدينة بمن فيها كما لو لم يوجدوا. أمّا هي، فقد مُنحت ما طلبته، وعاشت حياةً ثانية، لأنّها عاشت في المرة الأولى.




[1] محمد الماغوط


[2] من القصائد التي تُدرّس في الصف السابع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق