السبت، 31 مارس 2007

كلماتي الأخيرة


من الصعوبة أن أحدِّد دوافعي لكتابة هذه الرسالة. اعتذار، تأنيب ضمير، محاولة لتبرئة نفسي، تسرية عن النفس، قلق... كلٌّ منها يشكِّل سبباً قائماً بذاته، وكلّها مجتمعاً يشكّل جزءاً من السبب، ولكنّها ليست ما يدفعني الآن للكتابة، فهذا الازدحام في رأسي يسلب الأشياء أسماءها وماهيّاتها. لذا، سأترك للقارئ الحريّة في تسمية الدافع أو الدوافع وراء ما سأسوقه إليه من تدفّقٍ في الأفكار والأحاسيس المبعثرة، مستعيناً ببعض المقبوسات من رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب" (لن يخفى عليكم أنّ الرواية أثّرت فيَّ كثيراً، وإلا لما كنتُ استعنتُ بها في رسالتي الأخيرة).



قلّما نكتب حينما نشعر بالسعادة، فغالباً نجد من يشاطرنا بها، وما أكثر طرق التعبير عنها، والسبب الأهمّ هو أنّنا لا نخلو إلى أنفسنا عندما تحصل لنا الأمور الجيّدة. لكن، إن يصبنا غمٌّ يسير، يبدو لنا الانطواء أفضل، إذ يندر أن تجد من يجيد الإصغاء إليك، وإن وُجِد، تتأخّر في معرفته.


"إنّ الأفعال، في عصرنا هذا، عادةً ما تكون ذات طبيعة نفعيّة تخضع للمصلحة والمنطق والظروف. إنّ هذا النمط من الأشخاص، يبدو وكأنّهم مطلوبون، فهم مريحون ومناسبون. يمكن أن يُطلق عليهم: الشخص–المنفعة، أو الشخص–الوظيفة." إنّ هذه الشخصية "النمطية" صارت تسمى "الطبيعية"، وهي من النمطية والمنطقية ما يجعلها أشبه بالآلة.

"ولكن، من أين يأتي الازدواج والثنائية فيَّ؟ فأنا قادر على أن أرعى في روحي أسمى المثل إلى جانب أحطّ الدناءات، وكلُّ ذلك عن صدقٍ خالص. إنّ فهمَ هذه الازدواجية يتطلّب إدراك استحالة معرفة الإنسان، والاطلاع على لا محدوديته، وعلى فوضى مشاعره، ورؤية أية تناقضات وأية أعماق لا يمكن بلوغها تكمن في نفس الإنسان."

"إنّ ما أخافه أكثر ما أخاف هو أن أتقدّم خطوة إلى الأمام، هو أن أقول كلمةً شخصيّة. أفكّر في كلّ شيء ولا أفكّر في شيء، وإذا كنتُ لا أعمل شيئاً فلأنني أثرثر، أو يمكن القول على وجهٍ أدقّ، إذا كنت أثرثر، فلأنني لا أعمل شيئاً. إنّ كلّ شيء موجود بين يديّ، ومع ذلك، فإنني أدع لكلّ شيء أن يمرّ تحت أنفي."

"وهنا سؤال آخر يخطر ببالي: هل يجوز للإنسان أن يتصرف في أقدار الآخرين وحياتهم من أجل مصلحة الآخرين؟"

"إن تلك الفترة التي قضيتُها في غمّ ثقيل واهتياج كالح قد جعلتني متعباً إلى حدّ أنّني أتوق الآن إلى استرداد أنفاسي ولو لحظة من الزمن في عالم آخر، في أيّ عالم آخر، لذلك كنتُ أشعر أحياناً من بقائي تحت تأثير الكحول بلذّة كبيرة رغم رداءة الموقف. فإذا كنت أشرب، فإنّما أنا أشرب سعياً وراء العاطفة. أنا أشرب لأتألّم ألماً مضاعفاً. لا بدّ لكلّ إنسانٍ من أن يجد ولو مكاناً يذهب إليه، لأنّ الإنسان تمرُّ به لحظات لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما، أيّ مكان!!"

كان صوتكِ الدافئ يتخبّط في رأسي مزعزعاً ثوابتي. أدركتُ أنّني مُقبِل على أمر مجهول العواقب. لكنّ نشوة المخاطرة طغت على سكينة المبادئ، وكان الليل يمنحني مزيداً من التهوّر.

"ومع ذلك، أحسُّ في تلك الدقيقة إحساساً غامضاً بأنّ حالة التفاؤل التي صارت إليها نفسي منذ قدومكِ حالة مَرَضيّة هي أيضاً. كنت أروِّح عن نفسي بما تشتمل عليه تلك الأحلام من جرأة دنيئة فتّانة في آن واحد."

حسناً، سأعود إلى الوراء وسأركّز بشكل خاصّ على المواضيع التي تنفّركِ مني، وتثير اشمئزازك. سأذكر في هذه العودة إلى الوراء "الإحساس الإنسانيّ العادي ببعض السرور عندما تقع مصيبة للآخرين، أي عندما تنكسر ساق أحدهم، أو يتلطّخ شرفه، أو يفقد عزيزاً لديه.. إنّ البشر عامّةً يشعرون بذلك الإحساس الغريب، إحساس اللذة الذي يُلاحَظ دائماً حتى لدى أقرب الأقرباء حين يرون شقاءً يحلّ بقريبهم، وهو إحساس لا يخلو منه أي إنسان مهما يكن إحساسه بالأسف والشفقة صادقاً. بالطبع لا يريد أحد أن يكتشف في نفسه مثل هذا، لاسيّما وأنّ كل منّا، في هذا الوقت، يملك تحصيناً هائلاً ضدّ هكذا نقاط مظلمة في نفسيّته، والتي، كما ذكرت سابقاً، أنّها تحوي أنبل الصفات وأحطّها في آنٍ واحد"، وإنّما يكمن الفرق بين الناس في مقدار ما يطلقه كلٌّ منّا من العنان لتفكيره.

على صعيدٍ آخر، "ورغم جميع المحاورات التي جرت بيني وبين نفسي، والتي كنت في أثنائها أعيب على نفسي ضعفها وتردّدها، فإنني قد اعتدت، رغم إرادتي تقريباً"، أن أنظر إلى ذلك (الحلم – الشهوة) الدنيء، "نظرتي إلى مشروعٍ عليّ أن أنفّذه" كان ذاك الحلم، رغم انحطاطه مفعماً بلذّة لا تقاوم.

ربّما كانت هذه الرسالة تضحكك كما تضحك الآخرين، ولعلّي لا أزيد على أن أضايقك بهذا العرض الغبي الأبله لتفاصيل تافهة من حياتي السيكولوجية، ولكنه لا يضحكني أنا، "لأنّ هذا كلّه إنّما أحسّه بكلّ جوارحي."

"من الغَلْطِ بمكان أن تحسبي أنّني أشعر بالسعادة لما آلت إليه حياتي، أو أنّني أقف مكتوف الأيدي وأنا أرى الخسائر تتوالى على جميع الصعد، ولا يكفي أن أقول إنّ الألم الذي يعتصرني والأسف على ما فات يكفيان لترميم الثقوب التي حدثت في شخصيّتي، كما لن أبالغ وأنعت نفسي بالمريض والمتطرّف والمختلّف عمّن حولي، وإنّما يزداد الألم بدرجة اليقظة التي تسمح لنا بوضع شخصيّتنا على المشرحة." ولعلّ أقلّ الأشخاص ألماً هو من وصفته في مقدَّمة حديثي: الشخص–الوظيفة.

"أنام نوماً لا يجلب لي أيّة راحة، ثم أستيقظ لأجد نفسي في القفص ذاته كل يوم. إنّ الإنسان يعتاد كلّ شيء؛ ياله من حقير!"

يتجاوزني كثيرٌ من الكلمات الآن، وأدرك أنّ عشرات الأمور العالقة ما تزال تحوم حولي، ولا أقدر على التخلّص منها، ولكنّي، بسبب الخوف والهروب حيناً، والوهم حيناً آخر، أستطيع تجاهلها.

"ترتكز القضية أحياناً على الموت وما يتعلّق به، إذ لا يموت إلا من لا يرغب بالموت، ويتوقف ذلك أحياناً على فهمنا، أو بشكل أدقّ، تخيّلنا لحقيقة الموت وما بعده"، ثمّ ثمّة مشكلة الأنانيّة والشجاعة: "الأنانيّة في توزيع حياتي بشكل حصص، والشجاعة في تنفيذ ذلك." لم يكن الانتحار يوماً حلاً بالنسبة لي، فحياتي "الحاليّة" ليست ملكاً لي. لذا لجأت إلى حلول أخرى.

عندما بدأت بالكتابة قبل ساعات عدّة من الآن، توقّعت أنّي سأرتِّب بضع جمل من دوستويفسكي أُحسِّن فيها صورتي، وكان حديثي موجهاً إليكِ، أمّا الآن فأشعر وكأنّي أخاطب البشريّة كلّها وأقدِّم تقريراً عن حياتي التي سأنتهي منها قريباً.

لقد فقدتُ الإيمان بكلّ شيء، حتّى إنّي صرتُ أشكّ في طيبة والدَيّ. هذه أوّل مرّة، ربّما، أشعر فيها بالكراهية حقّاً. لا أعني كراهية لشخص محدَّد، بل كراهية قد تدفعني إلى قتل أحدهم، ربّما شخص لم يسبق أنّه التقيتُ به.

سأنهي هذه الرسالة هنا لأنّني أشعر بإرهاق شديد، فقد مرَّتْ إحدى عشرة ساعة على كتابتي لأولى كلمات هذه الرسالة، ولأنّني بدأت أخاف أن أنساق إلى قول أشياء لا ينبغي قولها. لكنّي أريد أن أختم رسالتي بالاعتذار منكم جميعاً على كلّ تصرّف سبّب الأذى لأيّ منكم، وأعتذر بشكل خاصّ منكِ عن كل لحظة جميلة تسبّبتُ بقتلها في الأعوام الماضية، وهو أقلّ، أو كلّ، ما يمكنني قوله لإحدى ضحايا حماقتي وسذاجتي. الوداع.

بشّار يوسف

31/3/2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق