الأحد، 21 يونيو 2020

لم يمت جدي

 


كان الصباح باكراً جداً على ما أدركته يومها، حينما كان دوري في السهر على جدي المريض وحمايته من نفسه المتمارضة. اقترب مني حيث كنت جالساً وبدأ يضغط على أزرار حاسوبي بطريقة عشوائية بحثاً عن الزر الذي سينهي حياته، ليسألني بعدها عن رقم هاتف حارس المقبرة كي يدفنه في القبر الذي اشتريناه إلى جوار قبر أخي الصغير نوار، الذي زارني قبل ذلك بأيام واشترط لعودته أن يأخذ جدي بدلاً عنه. أجل؛ اشترينا قبراً فارغاً، وكأننا كنا نمد لنا جذوراً في أرض دمشق التي لن تشبع من أوجاعنا.

أدركت وقتها أن ما تبقى من جدي بات هشاً على الوجود، وعرفت ما الذي سيقتله، أو ما الذي قتل ذاك الذي لم يخن زوجته أو قضيته، قد غدا واضحاً أنه تعرض للخذلان من سنين الملاحقة الأمنية التي لم تثمر وطناً، ومن الدين الذي نشره فكافأه بموت حفيدٍ ونفي أبناءٍ وأحفادٍ آخرين، والدنيا التي تمادت في أخذ كل ما جمعه في حياته حتى شاهد القوات الحكومية تهدم آخر ما ملكه كي تنشئ مكانه "متنفساً" لدمشق بين المستشارية الإيرانية والفندق الذي بناه حديثاً ابن خال الرئيس. أمسى جلياً أن ذاك المقهور أمامي ما كان ليصمد أكثر وهو ينتظر أحدنا يمسك قارورة أمامه كي يتبوّل فيها، أو يتركه ابنه -بعد أن تعب من هلوساته- حتى الصباح التالي كي أجده مرمياً على الأرض باكياً بعد أن بلل نفسه وهو يحاول الوصول إلى الحمّام.

هل حدث كل ذلك بعد عملية القلب التي أجراها عقب الجلطة الأولى وما تلاها من تناول العقاقير المهدئة التي وصفها له طبيب الأعصاب؟ لأني لا أذكر، قبل ذلك، سوى صلابة الرجل الجالس على شرفته يدخن في وجه الشمس متناسياً رحيل رفاق دربه، ولوحةً لهيبة جلوسه خلف كتب تفسير القرآن على سجاد غرفته المزركش. كيف صار ضعيفاً وبكّاءً كلما رغبت في التقاط صورة له؟! لعله كان محتاجاً لبعض الحب، الحب الحقيقي، كالذي حجبته عنه زوجته عندما دفعته وهو يطلب منها ضمةً بعد غياب أسبوعين، ربما انتقاماً مما فعل بحياتها أو خجلاً من أحفادها، ليستعيض عنها لاحقاً بإمساك يدي داخل سيارة الإسعاف يرجوني ألا أتركه.

بعد أقل من أسبوعين، منتصف عام ألفين وسبعة، أنهى الموت عجزه عصراً قبل أن يتمكن من إتمام صلاته. هكذا مات؛ موت عظيم وإن لم تحبذوا رؤيته كذلك. مات جدي، مات الملا محمد، مات الرجل الذي أُطلق اسمه على عدد من أبناء القرى الحدودية مع كردستان العراق احتراماً لنضاله في سبيل حقوقهم، مات الذي لم يساوم على مبادئه بالأراضي التي حاول من خلالها حزب البعث تكميم الأفواه، مات الذي لم يقبل أن يتقاضى راتباً عن عمله القصير إماماً لجامع، مات الذي رفض منح بناته نصف ما أقرّه الشرع لأبنائه، مات الذي كان يحملني ويشتري لي الآلات الموسيقية حينما كان والدي غائباً، مات جدي!

قالوا إني بكيت كثيراً ولكمت الحائط مراراً، قالوا إن والدي ظل غير مصدق لما جرى لأنه سمع نبضات قلبه تسري في عروق جدي، قالوا إن روح أمي اهتزت للمرة الخامسة خلال أقل من سنتين، قالوا إن جدتي -التي لا تتحدث العربية- وقفت بثبات محاولة تهدئة أبنائها وهي تردد: “قدر الله وما شاء فعل"، قالوا إن أبناء الجيران الذين تشاجرت معهم حملوا جدي على أكتافهم، قالوا إنها أمطرت بغزارة يومها.

في اليوم التالي، لم يكن جسده الموجود في مشرحة مشفى العباسيين في دمشق أقل وقاراً مما سبق، فبينما كنا نحضّر ترتيبات دفنه قرب أمه في القامشلي، حسبما أوصى به، كانت القوى الأمنية بكافة فروعها تحاول إغلاق معابر المدينة والبلدات المحيطة بها خوفاً من انتفاضة أخرى، كتلك التي اشتعلت عام ألفين وأربعة، لكن؛ كل تلك الحواجز والعناصر المدججة بالأسلحة لم تستطع منع التشييع المهيب الذي يليق باسمه.

كل تلك الأحداث المتسارعة وما رافقها من ضجيج الذكريات الجميلة والمؤلمة الممزوجة بصخب مئات الأصدقاء في خيمة العزاء القريبة لم يكن كافياً ليمحو من ذاكرتي صورة جسده المستسلم للغسيل الأخير وفمه المفتوح للسماء يصرخ بي: لا تنكسر، فإنّك لن تقف بعدها.

مرة أخرى قالوا إنهم حاولوا تهدئتي مجدداً لأني كنت الوحيد الذي أبكي خلال الجنازة الحافلة بالمخبرين، فقلت: لم يمت.

--------------------------

تم تشر هذا النص على موقع سرد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق