الجمعة، 3 أبريل 2020

الحاجز

 

كان مكتب البريد القريب مغلقاً عصر ذلك اليوم، لأسباب تتعلّق بانتشار فايروس كورونا، ما اضطرني إلى الذهاب إلى مكتب آخر أبعد. نظرت إلى الساعة لأحدّد سرعة سيري كي أتمكّن من العودة قبل انقضاء الساعة التي يُسمح لنا فيها بالتجوّل.

 

كانت الطريق خالية إلا من امرأة تحمل كيسين من الأغراض التي ابتاعتها من المخزن المجاور. حاولت، من باب التسلية، أن أناغم بين خطواتنا وإيقاع الأغنية الصادر عن إحدى النوافذ المفتوحة، لكن سرعان ما شدّتني ضحكات طفلة تلعب مع كلبها في فناء منزلها. تابعت المشي وأنا أتذكّر ابنتي التي لم أقضِ معها وقتاً كافياً منذ أربعة أشهر. أعتقد أنّها كانت المرة الثانية التي أحسد فيها كلباً؛ كانت الأولى حينما عجزت عن الحصول على جواز سفر يقيني مما أمسى طبيعياً في الدولة التي نشأت فيها. وصلت نهاية الطريق لأنتبه إلى أنّ المرأة اختفت، لتنتهي رحلتي معها سريعاً. حسناً، ربّما سألقاها بعد أيّام حين أخرج ثانية لشراء بعض الحاجيّات.

انعطفتُ يميناً لأتّجه نحو الشارع الرئيس، فلمحت في منتصفه حاجزاً للشرطة الفرنسيّة يقطع السير في الاتّجاهين. توقّفت للحظات. تلمّست الجيب الداخليّ لمعطفي لأتأكّد من وجود هويّتي والأوراق الأخرى التي طلبت منّا السلطات حملها. أربع سيّارات وثمانية عناصر، يوقفون السيّارات القليلة للتأكّد من أسباب مرورهم.

قرّرت أن أنعطف مجدَّداً نحو محطّة القطار لأستقلّ حافلة ما من أمامها، لكنّه كان خياراً سيّئاً بالتّأكيد، لأنّني قد أنتظر أكثر من أربعين دقيقة قبل أن تمرّ إحداها بعد قرار تقييد حركة النقل. خطرت لي فكرة أخرى، سأعبر الشارع وأمرّ عبر الحديقة، لأتجنّب بذلك الحاجز. رميت متثاقلاً بضع خطوات لأكتشف أنّ الحديقة أيضاً مقفلة بغية منع التجمّعات التي قد تسرّع من انتشار الفايروس. لم يكن أمامي سوى أن أعود أدراجي.

تجاوزني سائق دراجة حاملاً بيده الورقة التي سيظهرها للشرطة. لماذا أنا مرتبك إلى هذا الحدّ فأنا أيضاً أحمل ورقة مثلها ولم أبتعد عن بيتي كثيراً؟ أخرجت هاتفي محاولاً إلهاء نفسي كي أطيل فترة مراقبتي لما يجري على بعد عشرات الأمتار منّي.

ذكّرتُ نفسي حازماً: ما بك؟ لستَ في سوريا الآن، وذاك ليس حاجزاً للأمن السوريّ، لن تتعرّض للضرب أو الاعتقال، فهؤلاء هنا لمنع تفشّي الوباء فحسب، حتّى إذا ما ارتكبتَ مخالفة ما، سيقومون بتغريمك فقط. أتتذكّر حينما وجدتَ محفظة نقود بعد وصولك إلى فرنسا، وكنت خائفاً من أخذها إلى مركز الشرطة. ماذا حصل؟ قالوا لك بكلّ بساطة نشكرك على أمانتك لكن هذا ليس من اختصاصنا، اذهب إلى البلدية. هل وجّهوا لك أيّ تهمة؟ هل انهال عليك شخصان بالضرب لظنّهم بأنّك سرقت ما في المحفظة من نقود كما حصل حين كنت صبيّاً واقتادوك إلى قسم المرجة في دمشق وصوت الأغلال ينبّه المارّة إليك؟ ألم تتفاجأ وقتها أنّهم لم يرعبوك ببساط الريح -الذي يحوّل الحمار إلى غزال، كما قال لك المساعد الأصهب؟ هل حاول أحدهم نزع أظافرك؟ هل ابتزّوا جدّك وقايضوا ألمك بحمسة آلاف ليرة قبل أن يخلوا سبيلك؟ لا خوف عليك، لا قوائم للمطلوبين هنا، لست ملاحقاً في أحياء دمشق، ولا صيداً سهلاً لميليشيات الطوائف في بيروت، أنت ماضٍ إلى مكتب البريد، هذا كلّ ما في الأمر.

أشعرتُ نفْسِي بشيء من الاطمئنان، وتقدّمت لمواجهة مخاوفي. مشيت على الطرف البعيد من الرصيف، مدّعياً الاهتمام بشيء ما في هاتفي. لمحت بطرف عيني الشرطة تتحدّث إلى بعض السائقين. كان عددهم كافياً كي لا يلحظني أحد. لم يوقفوني. يالسعادتي! نجح الأمر ثانية، بعد تسع سنوات من المرّة الأولى. كان يوم جمعة، وكنت ذاهباً إلى زملكا، لكن، كان عليّ أوّلاً أن أجد مخرجاً من ركن الدين، دون أن أمرّ على الحواجز التي كانت تحاصر الحيّ بحثاً عن المتظاهرين. نجحت في تجنّبها كلّها باستثناء الأخير، الذي كان يقطع الطريق أمام أفران ابن العميد. لم أتمكّن من الرجوع لأنهم نصبوا حاجزاً طيّاراً بالقرب من المخفر، فقرّرت المجازفة، ومشيت على المنصّف، وبالفعل، لم يوقفني أحد، ربما ظنّوا أنّ الحاجز السابق سمح لي بالخروج، أو ربّما لم يصدّقوا أنّي كنت جريئاً وغبيّاً إلى تلك الدرجة.

بلغت مكتب البريد، الذي كان مغلقاً أيضاً، فاستدرت للرجوع، دون رغبة منّي في البحث عن مكاتب أخرى، عساني أنهي هذه الرحلة الطويلة. مشيت وسط مرآب خالٍ من السيّارات. أعتقد أنّه كان يُستخدم من قبل الموظّفين. مجدّداً علّقت نظري على الحاجز. رغبت في التقاط صورة تذكاريّة، إلا أنّني لم أمتلك الشجاعة للقيام بذلك، إذ ماذا لو رأوني وسألوني عن سبب التقاط صورة يظهرون فيها؟ هل سيصادرون هاتفي؟ هل سيتمّ اعتقالي لذلك؟ ربّما بدوت ساذجاً، لكنّي سوري، وفعلٌ كهذا كان كفيلاً بتعذيب آخرين حتّى الموت. أجّلت التقاط الصورة لحين ابتعادي عن الحاجز كي لا أمنحهم فرصة سؤالي عنها، وربّما أفلح مرّة جديدة في المرور بسلام، على الأقلّ هكذا بررت ذعري في تلك اللحظة.

في أثناء ذلك، ارتكبت خطأ، إذ عدت من الطرف الآخر، لا من حيث عبرت في الجولة الأولى، ولسوء الحظّ، لم يكن هناك غيري. توجّهت صوبي الشرطيّة الوحيدة بينهم.

- صباح الخير سيّدي، هل يمكن أن تريني الوثيقة والهويّة؟

- صباح الخير، بالطبع.

- هل خرجت لتشتري بعض الأشياء؟

- لا، في الواقع مررت بمكتب البريد لكنّه مغلق.

- صحيح إنه مغلق، إذن أنت عائد إلى المنزل؟

- أجل.

- جيّد، أتمنّى لك نهاراً سعيداً.

- وأنتِ أيضاً، وداعاً.

أخذتُ نفساً عميقاً وأنا أراها تبتعد عنّي، ثم استأنفتُ المشي.

بعد عدّة خطوات، أخرجت من جيبي لفافة تبغ كنت قد أعددتها في البيت، لأنّني لن أقدر على ذلك وأنا أرتدي القفّازات الواقية. نفثت الدخان كتنّين فاز للتوّ بمعركة شرسة، لكنّ التنين لم يجد الشجاعة الكافية لالتقاط الصورة إلا بعدما ابتعد مسافة طويلة، وبالكاد ظهرت ملامح ساحة المعركة فيها.

ولجتُ الطريق المؤدّية إلى بيتي مطرقاً وأنا أفكّر: إذا كان هذا ما حصل لي، أنا الذي أعتبر نفسي محظوظاً، فما الذي يمكن أن يحصل لسوريين آخرين، واجهوا ظروفاً أقسى ممّا عايشته في تلك البلاد المشوَّهة؟َ

---------------------- 

تم نشر هذا النص على موقع سرد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق